فصل: فصل من خلط الزهاد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صيد الخاطر **


  فصل سر وجود الهمل

رأيت أكثر الخلق في وجودهم كالمعدومين فمنهم من لا يعرف الخالق ومنهم من يثبته على مقتضى حسه ومنهم من لا يفهم المقصود من التكليف‏.‏

وترى المترسمين بالزهد يدأبون في القيام والقعود ويتركون الشهوات وينسون ما قد أنسوا به من شهوة الشهرة وتقبيل الأيادي‏.‏

ولو كلم أحدهم لقال‏:‏ ألمثلي يقال هذا ومن فلان الفاسق‏.‏

فتعجبت كيف يصلح هؤلاء لمجاورة الحق وسكنى الجنة‏!‏‏.‏

فرأيت أن الفائدة في وجودهم في الدنيا تجانس الفائدة في دخولهم الجنة فإنهم في الدنيا بين معتبر به يعرف عارف الله سبحانه نعمة الله عليه بما كشف له مما غطى عن ذاك ويتم النظام بالاقتداء تصور أولئك‏.‏

فإن العارف لا يتسع وقته لمخالطة من يقف مع الصورة الزاهد كراعي البهم والعالم كمؤدب الصبيان والعارف كملقن الحكمة‏.‏

ولولا نفاط الملك وحارسه‏.‏

ووقاد أتونه‏.‏

ما تم عيشه‏.‏

فمن تمام عيش العارف استعمال أولئك بحسبهم فإذا وصلوا إليه حرر مانعهم وفيهم من لا يصل إليه فيكون وجود أولئك كزيادة - لا - في الكلام‏.‏

هي حشو وهي موكدة‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فهب هذا يصح في الدنيا‏.‏

فكيف في الجنة‏.‏

والجواب‏:‏ أن الأنس بالجيران مطلوب ورؤية القاصر من تمام لذة الكامل ولكل شرب‏.‏

ومن تأمل ما أشرت إليه كفاه رمز لفظي عن تطويل الشرح‏.‏

  فصل من دروس النشأة

لما تلمحت تدبير الصانع في سوق رزقي‏.‏

بتسخير السحاب‏.‏

وإنزال المطر برفق والبذر دفين تحت الأرض كالموتى قد عفن ينتظر نفخة من صور الحياة فإذا أصابته اهتز خضراً‏.‏

وإذا انقطع عنه الماء مد يد الطلب يستعطي وأمال رأسه خاضعاً ولبس حلل التغير فهو محتاج إلى ما أنا محتاج إليه من حرارة الشمس وبرودة الماء ولطف النسيم وتربية الأرض فسبحان من أراني - فيما يربيني به - كيف تربيتي في الأصل‏.‏

فيا أيتها النفس التي قد اطلعت على بعض حكمه قبيح بك - والله - الإقبال على غيره‏.‏

ثم العجب كيف تقبلين على فقير مثلك ينادي لسان حاله بي مثل ما بك يا حمام‏!‏‏.‏

فارجعي إلى الأصل الأول واطلبي من المسبب‏.‏

ويا طوبى لك أن عرفتيه فإن عرفانه ملك الدنيا والآخرة‏.‏

  فصل الخلوة وحلاوة المناجاة

كنت في بداية الصبوة قد ألهمت سلوك طريق الزهاد بإدامة الصوم والصلاة‏.‏

وحببت إلي الخلوة‏.‏

فكنت أجد قلباً طيباً‏.‏

وكانت عين بصيرتي قوية الحدة تتأسف على لحظة تمضي في غير طاعة وتبادر الوقت في اغتنام الطاعات‏.‏

ولي نوع أنس وحلاوة مناجاة فانتهى الأمر إلى أن صار بعض ولاة الأمور يستحسن كلامي فأمالني إليه فمال الطبع ففقدت تلك الحلاوة‏.‏

ثم استمالني آخر فكنت أتقي مخالطته ومطاعمه لخوف الشبهات‏.‏

وكانت حالتي قريبة‏.‏

ثم جاء التأويل فانبسطت فيما يباح فانعدم ما كنت أجد من استنارة وسكينة‏.‏

وصارت المخالطة توجب ظلمة في القلب إلى أن عدم النور كله‏.‏

فكان حنيني إلى ما ضاع مني يوجب انزعاج أهل المجلس فيتوبون ويصلحون وأخرج مفلساً فيما بيني وبين حالي‏.‏

وكثر ضجيجي من مرضي وعجزت عن طب نفسي فلجأت إلى قبور الصالحين وتوسلت في صلاحي فاجتذبني لطف مولاي إلى الخلوة على كراهة مني ورد قلبي علي بعد نفور عني وأراني عيب ما كنت أوثره‏.‏

فأفقت من مرض غفلتي‏!‏ وقلت في مناجاة خلوتي‏:‏ سيدي كيف أقدر على شكرك وبأي لسان أنطق بمدحك إذ لم تؤاخذني على غفلتي ونبهتني من رقدتي وأصلحت حالي على كره من طبعي‏.‏

فما أربحني فيما سلب مني إذا كانت ثمرته اللجأ إليك‏!‏‏.‏

وما أغناني إذ أفقرتني إليك وما آنسني إذ أوحشتني من خلقك‏.‏

آه على زمان ضاع في غير خدمتك‏!‏ أسفاً لوقت مضى في غير طاعتك‏.‏

قد كنت إذا انتبهت وقت الفجر لا يؤلمني نومي طول الليل‏.‏

وإذا انسلخ عني النهار لا يوجعني ضياع ذلك اليوم‏.‏

وما علمت أن عدم الإحساس لقوة المرض‏.‏

فالآن قد هبت نسائم العافية فأحسست بالألم فاستدللت على الصحة‏.‏

فيا عظيم الإنعام تممم لي العافية‏.‏

آه من سكر لم يعلم قدر عربدته إلا في وقت الإفاقة‏.‏

لقد فتقت ما يصعب رتقه فواأسفاً على بضاعة ضاعت وعلى ملاح تعب في موج الشمال مصاعداً مدة ثم غلبه النوم فرد إلى مكانه الأول‏.‏

يا من يقرأ تحذيري من التخليط فإني - وإن كنت نفسي بالفعل نصيح لإخواني بالقول - احذروا - إخواني من الترخص فيما لا يؤمن فساده‏.‏

فإن الشيطان يزين المباح في أول مرتبة‏.‏

ثم يجر إلي الجناح فتلمحوا المآل وافهموا الحال‏.‏

وربما أراكم الغاية الصالحة وكان في الطريق إليها نوع مخالفة فيكفي الاعتبار في تلك الحال إنما تأمل آدم الغاية وهي الخلد ولكنه غلط في الطريق وهذا أعجب مصايد إبليس التي يصيد بها العلماء‏.‏

يتأولون لعواقب المصالح فيستعجلون ضرر المفاسد‏.‏

مثاله أن يقول للعالم أدخل على هذا الظالم فاشفع في مظلوم فيستعجل الداخل رؤية المنكرات ويتزلزل دينه‏.‏

وربما وقع في شرك صار به أظلم من ذلك الظالم‏.‏

فمن لم يتق بدينه فليحذر من المصائد فإنها خفية‏.‏

وأسلم ما للجبان العزلة خصوصاً في زمان قد مات فيه المعروف وعاش المنكر ولم يبق لأهل العلم وقع عند الولاة‏.‏

فمن داخلهم دخل معهم فيما لا يجوز ولم يقدر على جذبهم مما هم فيه‏.‏

ثم من تأمل حال العلماء الذين يعملون لهم في الولايات يراهم منسلخين من نفع العلم قد صاروا كالشرطة‏.‏

فليس إلا العزلة عن الخلق‏.‏

والإعراض عن كل تأويل فاسد في المخالطة‏.‏

ولأن أنفع نفسي وحدي‏:‏ خير لي من أن أنفع غيري وأتضرر‏.‏

فإنه إن انفردت بمولاك فتح لك باب معرفته‏.‏

فهان كل صعب وطاب كل مر وتيسر كل عسر وحصلت كل مطلوب‏.‏

والله الموفق بفضله ولا حول ولا قوة إلا به‏.‏

  فصل مدخل الفساد

تأملت على نفسي تأويلاً في مباح أنال به شيئاً من الدنيا إلا أنه في باب الورع كدر‏.‏

فرأيته أولاً قد احتلب در الدين فذهبت حلاوة المعاملة لله تعالى‏.‏

ثم عاد فقلص ضرع حلبي له فوقع الفقد للحالين‏.‏

فقلت لنفسي‏:‏ ما مثلك إلا كمثل وال ظالم جمع مالاً من غير حله فصودر‏.‏

فأخذ منه الذي جمع وألزم ما لم يجمع‏.‏

فالحذر الحذر من فساد التأويل فإن الله تعالى لا يخادع ولا ينال ما عنده بمعصيته‏.‏

  فصل خير الأمور الوسط

رأيت نفسي كلما صفا فكرهاً أو اتعظت بدارج أو زارت قبور الصالحين تتحرك همتها في طلب العزلة والإقبال على معاملة الله تعالى‏.‏

أتراك تريدين مني أن أسكن قفراً لا أنيس به فتفوتني صلاة الجماعة ويضيع مني ما قد علمته لفقد من أعلمه‏.‏

وأن آكل الجشب الذي لم أتعوده فيقع نضوي طلحاً في يومين‏.‏

وأن ألبس الخشن الذي لا أطيقه فلا أدري من كرب محمولي من أنا‏.‏

وأن أتشاغل عن طلب ذرية تتعبد بعدي مع بقاء القدرة على الطلب‏.‏

بالله ما نفعني العلم الذي بذلت فيه عمري إن وافقتك وأنا أعرفك غلط ما وقع لك بالعلم‏.‏

اعلمي أن البدن مطية والمطية إذا لم يرفق بها لم تصل براكبها إلى المنزل‏.‏

وليس مرادي بالرفق الإكثار من الشهوات وإنما أعني أخذ البلغة الصالحة للبدن فحينئذ يصفو الفكر ويصح العقل ويقوي الذهن‏.‏

ألا ترين إلى تأثير المعوقات عن صفاء الذهن في قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان وقاس العلماء على ذلك الجوع وما يجري مجراه من كونه حاقناً أو حاقباً‏.‏

وهل الطبع إلا ككلب يشغله الأكل فإذا رمي له ما يتشاغل به طاب له الأكل‏.‏

فأما الانفراد والعزلة فعن الشر لا عن الخير‏.‏

ولو كان فيها لك وقع خير لنقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم‏.‏

هيهات لقد عرفت أن أقواماً دام بهم التقلل واليبس إلى أن تغير فكرهم وقوي الخلط السوداوي عليهم فاستوحشوا من الناس ومنهم من اجتمعت له من المآكل الردية أخلاط مجة فبقي اليوم واليومين والثلاثة لا يأكل وهو يظن ذلك من أمداد اللطف وإذا به من سوء الهضم‏.‏

وفيهم من ترقى به الخلط إلى رؤية الأشباح فيظنها الملائكة‏.‏

فالله الله في العلم والله الله في العقل فإن نور العقل لا ينبغي أن يتعرض لإطفائه والعلم لا يجوز الميل إلى تنقيصه‏.‏

فإذا حفظا حفظاً وظائف الزمان ودفعا ما يؤذي وجلبا ما يصلح وصارت القوانين مستقيمة في المطعم والمشرب والمخالطة‏.‏

فقالت لي النفس‏:‏ فوظف لي وظيفة واحسبني مريضاً قد كتبت له شربة‏.‏

فقلت لها‏:‏ قد دللتك على العلم وهو طبيب ملازم‏.‏

يصف كل لحظة لكل داء يعرض دواء يلائم‏.‏

وفي الجملة ينبغي لك ملازمة تقوى الله عز وجل في المنطق والنظر وجميع الجوارح وتحقق الحلال في المطعم وإيداع كل لحظة ما يصلح لها من الخير ومناهبة الزمان في الأفضل ومجانبة ما يؤدي إلى من نقص ربح أو وقوع خسران‏.‏

ولا تعملي عملاً إلا بعد تقديم النية‏.‏

وتأهبي لمزعج الموت فكأن قد وما عندك من مجيئه في أي وقت يكون‏.‏

ولا تتعرضي لمصالح البدن بل وفريها عليه وناوليه إياها على قانون الصواب لا على مقضى الهوى فإن إصلاح البدن سبب لإصلاح الدين‏.‏

ودعي الرعونة التي يدل عليها الجهل لا العلم من قول النفس فلان يأكل الخل والبقل وفلان لا ينام الليل فاحملي ما تطيقين وما قد علمت قوة البدن عليه‏.‏

فإن البهيمة إذا أقبلت إلى نهر أو ساقية فضربت لتقفز لم تفعل حتى تزن نفسها فإن علمت فيها قوة الطفر طفرت وإن علمت أنها لا تطيق لم تفعل ولو قتلت‏.‏

وليس كل الأبدان تتساوى في الإطاقة ولقد حمل أقوام من المجاهدات في بداياتهم أشياء أوجبت أمراضاً قطعتهم عن خير وتسخطت قلوبهم بوقوعها فعليك بالعلم‏.‏

فإنه شفاء من كل داء والله الموفق‏.‏

عجبت من أقوام يدعون العلم ويميلون إلى التشبيه بحملهم الأحاديث على ظواهرها فلو أنهم أمروها كما جاءت سلموا لأن من أمر ما جاء ومر من غير اعتراض ولا تعرض فما قال شيئاً لا له ولا عليه‏.‏

ولكن أقواماً قصرت علومهم فرأت أن حمل الكلام على غير ظاهره نوع تعطيل ولو فهموا سعة اللغة لم يظنوا هذا‏.‏

وما هم إلا بمثابة قول الحجاج لكاتبه وقد مدحته الخنساء فقالت‏:‏ إذا هبط الحجاج أرضاً مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة شفاها فلما أتمت القصيدة قال‏:‏ لكاتبه إقطع لسانها فجاء ذاك الكاتب المغفل بالموسى‏.‏

فقالت له‏:‏ ويلك إنما قال أجزل لها العطاء‏.‏

ثم ذهبت إلى الحجاج فقالت‏:‏ كاد والله يقطع مقولي‏.‏

فكذلك الظاهرية الذين لم يسلموا بالتسليم فإنه من قرأ الآيات والأحاديث ولم يزد لم ألمه وهذه طريقة السلف‏.‏

فأما من قال‏:‏ الحديث يقتضي كذا ويحمل على كذا مثل أن يقول‏:‏ استولى على العرش بذاته ولقد عجبت لرجل أندلسي يقال له ابن عبد البر صنف كتاب التمهيد فذكر فيه حديث النزول إلى السماء الدنيا فقال‏:‏ هذا يدل على أن الله تعالى على العرش‏.‏

لأنه لولا ذلك لما كان لقوله ينزل معنى‏.‏

وهذا كلام جاهل بمعرفة الله عز وجل لأن هذا استسلف من حسه ما يعرفه من نزول الأجسام‏.‏

فقاس صفة الحق عليه‏.‏

فأين هؤلاء وأتباع الأثر‏.‏

ولقد تكلموا بأقبح ما يتكلم به المتأولون ثم عابوا المتكلمين‏.‏

واعلم أيها الطالب للرشاد أنه سبق إلينا من العقل والنقل أصلان راسخان‏.‏

عليهما مر الأحاديث كلها‏.‏

أما النقل فقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏"‏ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ‏"‏‏.‏

ومن فهم هذا لم يحمل وصفاً له على ما يوجبه الحس‏.‏

وأما العقل فإنه قد علم مباينة الصانع للمصنوعات واستدل على حدوثها بتغيرها ودخول الانفعال عليها فثبت له قدم الصانع‏.‏

وا عجباً كل العجب من راد لم يفهم طبيعة الكلام‏.‏

أوليس العقل إذا استغنى في هذا صرف الأمر عن حقيقته‏.‏

لما ثبت عند من يفهم ماهية الموت‏.‏

فقال‏:‏ الموت عرض يوجب بطلان الحياة‏.‏

فكيف يمات الموت‏.‏

فإذا قيل له فما تصنع بالحديث‏.‏

قال‏:‏ هذا ضرب مثل بإقامة صورة ليعلم بتلك الصورة الحسية فوات ذلك المعنى‏.‏

قلنا له‏:‏ فقد روي في الصحيح‏:‏ تأتي البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان‏.‏

فقال الكلام لا يكون غمامة ولا يتشبه بها‏.‏

قلنا له أفتعطل النقل قال‏:‏ لا ولكن أقول يأتي ثوابهما‏.‏

قلنا‏:‏ فما الدليل الصارف لك عن هذه الحقائق‏.‏

فقال‏:‏ علمي بأن الكلام لا يتشبه بالأجسام والموت لا يذبح ذبح الأنعام ولقد علمتم سعة لغة العرب‏.‏

ما ضاقت أعطانكم من سماع مثل هذا‏.‏

فقال العلماء صدقت‏:‏ هكذا نقول في تفسير مجيء البقرة وفي ذبح الموت‏.‏

فقال‏:‏ واعجبا لكم صرفتم عن الموت والكلام ما لا يليق بهما حفظاً لما علمتم من حقائقهما فكيف لم تصرفوا عن الإله القديم ما يوجب التشبيه له بخلقه بما قد دل الدليل على تنزيهه فما زال يجادل الخصوم بهذه الأدلة‏.‏

ويقول‏:‏ لا أقطع حتى أقطع فما قطع حتى قطع‏.‏

  فصل حول دليل الرجم

تفكرت في السر الذي أوجب حذف آية الرجم من القرآن لفظاً‏.‏

مع ثبوت حكمها إجماعاً فوجدت لذلك معنيين‏.‏

أحدهما‏:‏ لطف الله تعالى بعباده في أنه لا يواجههم بأعظم المشاق‏.‏

بل ذكر الجلد وستر الجرم ومن هذا المعنى قال بعض العلماء‏:‏ إن الله تعالى قال في المكروهات ‏"‏ كُتِبَ عَلَيْكُم الصِّيَامُ ‏"‏ على لفظ لم يسم فاعله وإن كان قد علم أن هو الكاتب‏.‏

فلما جاء إلى ما يوجب الراحة قال‏:‏ ‏"‏‏:‏ كَتَبَ رَبُكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ‏"‏‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أنه يبين بذلك فضل الأمة في بذلها النفوس قنوعاً ببعض الأدلة‏.‏

فإن الاتفاق لما وقع على ذلك الحكم كان دليلاً‏.‏

إلا أنه ليس كالدليل المقطوع بنصه‏.‏

ومن هذا الجنس شروع الخليل عليه الصلاة والسلام في ذبح ولده بمنام وإن كان الوحي في اليقظة آكد‏.‏

  فصل قوانين الأسباب والمسببات

عرضت لي حالة لجأت فيها بقلبي إلى الله تعالى وحده عالماً بأنه لا يقدر على جلب نفعي ودفع ضري سواه‏.‏

ثم قمت أتعرض بالأسباب فأنكر على يقيني وقال‏:‏ هذا قدح في التوكل‏.‏

فقلت‏:‏ ليس كذلك فإن الله تعالى وضعها من الحكم‏.‏

وكان معنى حالي أن ما وضعت لا يفيد وإن وجوده كالعدم‏.‏

وما زالت الأسباب في الشرع كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وَإذَا كُنْتَ فِيِهمْ فَأَقَمْتَ لَهْمْ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ‏"‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلهِ ‏"‏‏.‏

وقد ظاهر النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين وشاور طبيبين ولما خرج إلى الطائف لم يقدر على دخول مكة حتى بعث إلى المطعم بن عدي فقال‏:‏ أدخل في جوارك‏.‏

وقد كان يمكنه أن يدخل متوكلاً بلا سبب‏.‏

فإذا جعل الشرع الأمور منوطة بالأسباب كان إعراضي عن الأسباب دفعاً للحكمة‏.‏

ولهذا أرى أن التداوي مندوب إليه وقد ذهب صاحب مذهبي إلى أن ترك التداوي أفضل ومنعني الدليل من اتباعه في هذا فإن الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ما ومرتبة هذه اللفظة الأمر والأمر إما أن يكون واجباً أو ندباً‏.‏

ولم يسبقه حظر فيقال‏:‏ هو أمر إباحة‏.‏

وكانت عائشة رضي الله عنه تقول‏:‏ تعلمت الطب من كثرة أمراض رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ينعت له‏.‏

وقال عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ كل من هذا فإنه أوفق لك من هذا‏.‏

ومن ذهب إلى أن تركه أفضل احتج بقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ يدخل الجنة سبعون ألفاً بلا حساب‏.‏

ثم وصفهم فقال‏:‏ لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون‏.‏

وهذا لا ينافي التداوي لأنه قد كان أقوام يكتوون لئلا يمرضوا ويسترقون لئلا تصيبهم نكبة وقد كوى عليه الصلاة والسلام سعد بن زرارة ورخص في الرقية في الحديث الصحيح‏.‏

فعلمنا أن المراد ما أشرنا إليه‏.‏

وإذا عرفت الحاجة إلى إسهال الطبع رأيت أن أكل البلوط مما يمنع عنه علمي وشرب ماء التمر عندي أوفق وهذا طب‏.‏

فإذا لم أشرب ما يوافقني ثم قلت اللهم عافني قالت لي الحكمة‏:‏ أما سمعت أعقلها وتوكل إشرب وقل عافني ولا تكن كمن بين زرعه وبين النهر كف من تراب تكاسل أن يرفعه بيده ثم قام يصلي صلاة الاستسقاء‏.‏

وما هذه الحالة إلا كحال من سافر على التجريد وإنما سافر على التجريد لأنه يجرب بربه عز وجل هل يرزقه أو لا وقد تقدم الأمر إليه‏:‏ ‏"‏ وَتَزَوَّدُوا ‏"‏ فقال‏:‏ لا أتزود فهذا هالك قبل أن يهلكه‏.‏

ولو جاء وقت صلاة وليس معه ماء ليم على تفريطه وقيل له‏:‏ هلا استصحبت الماء قبل المفازة‏.‏

فالحذر الحذر من أفعال أقوام فمرقوا عن الأوضاع الدينية وظنوا أن كمال الدين بالخروج عن الطباع والمخالفة للأوضاع‏.‏

ولولا قوة العلم والرسوخ فيه لما قدرت على شرح هذا ولا عرفته فافهم ما أشرت إليه فهو أنفع لك من كراريس تسمعها وكن مع أهل المعاني لا مع أهل الحشو‏.‏

  فصل النظافة والجمال

تلمحت على خلق كثير من الناس إهمال أبدانهم فمنهم من لا ينظف فمه بالخلال بعد الأكل‏.‏

ومنهم من لا ينقي يديه في غسلها من الزهم ومنهم من لا يكاد يستاك وفيهم من لا يكتحل وفيهم من لا يراعي الإبط إلى غير ذلك فيعود هذا الإهمال بالخلل في الدين والدنيا‏.‏

أما الدين إنه قد أمر المؤمن بالتنظف والاغتسال للجمعة لأجل اجتماعه بالناس ونهى عن دخول المسجد إذا أكل الثوم وأمر الشرع بتنقية البراجم وقص الأظفار والسواك والاستحداد‏.‏

وغير ذلك من الآداب‏.‏

فإذا أهمل ذلك ترك مسنون الشرع وربما تعدى بعض ذلك إلى فساد العبادة مثل أن يهمل أظفاره فيجمع تحته الوسخ المانع للماء في الوضوء أن يصل‏.‏

وأما الدنيا فإني رأيت جماعة من المهملين أنفسهم يتقدمون إلى السرار‏.‏

والغفلة التي أوجبت إهمالهم أنفسهم أوجبت جهلهم بالأذى الحادث عنهم‏.‏

فإذ أخذوا في مناجاة السر لم يمكن أن أصدف عنهم لأنهم يقصدون السر فألقى الشدائد من ريح أفواههم‏.‏

ولعل أكثرهم من وقت انتباههم ما أمر أصبعه على أسنانه‏.‏

ثم يوجب مثل هذا نفور المرأة وقد لا تستحسن ذكر ذلك للرجل فيثمر ذلك التفاتها عنه‏.‏

وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول‏:‏ إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين وفي الناس من يقول‏:‏ هذا تصنع‏.‏

وليس بشيء فإن الله تعالى‏:‏ ‏"‏ زيَّنَنَا لَمّا خَلَقَنَا ‏"‏‏.‏

لأن العين حظاً في النظر‏.‏

ومن تأمل أهداب العين والحاجبين‏.‏

وحسن ترتيب الخلقة علم أن الله زين الآدمي‏.‏

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أنظف الناس وأطيب الناس وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حتى تبين عفرة إبطيه وكان ساقه ربما انكشفت فكأنها جمارة‏.‏

وكان لا يفارقه السواك وكان يكره أن يشم منه ريح ليست طيبة‏.‏

وفي حديث أنس الصحيح‏:‏ ما شانه الله بيضاء‏.‏

وقد قالت الحكماء‏:‏ من نظف ثوبه قل همه ومن طاب ريحه زاد عقله‏.‏

وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه‏:‏ ما لكم تدخلون علي قلحاً استاكوا‏.‏

وقد فضلت الصلاة بالسواك على الصلاة بغير سواك فالمتنظف ينعم نفسه ويرفع منها قدرها‏.‏

وقد قال الحكماء‏:‏ من طال ظفره قصرت يده ثم إنه يقرب من قلوب الخلق وتحبه النفوس لنظافته وطيبه‏.‏

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الطيب‏.‏

ثم إنه يؤنس الزوجة بتلك الحال‏.‏

فإن النساء شقائق الرجال فكما أنه يكره الشيء منها فكذلك هي تكرهه وربما صبر هو على ما يكره وهي لا تصبر‏.‏

وقد رأيت جماعة يزعمون أنهم زهاد وهم من أقذر الناس وذلك أنهم ما قومهم العلم‏.‏

وأما ما يحكى عن داود الطائي‏:‏ أنه قيل له لو سرحت لحيتك فقال‏:‏ إني عنها مشغول فهذا معتذر عن العمل بالسنة والإخبار عن غيبته عن نفسه بشدة خوفه من الآخرة ولو كان مفيقاً لذلك لم يتركه فلا يحتج بحال المغلوبين‏.‏

ومن تأمل خصائص الرسول الله صلى الله عليه وسلم رأى كاملاً في العلم والعمل فيه يكون الاقتداء وهو الحجة على الخلق‏.‏

  فصل اخشوشنوا

تأملت مبالغة أرباب الدنيا في اتقاء الحر والبرد‏.‏

فرأيتها تعكس المقصود في باب الحكمة‏.‏

وإنما تحصل مجرد لذة ولا خير في لذة تعقب ألماً‏.‏

فأما في الحر فإنهم يشربون الماء المثلوج‏.‏

وذلك على غاية في الضرر وأهل الطب يقولون‏:‏ إنه يحدث أمراضاً صعبة يظهر أثرها في وقت الشيخوخة ويضعون الخيوش المضاعفة الرقيق وهذا من حيث الحكمة مضاد ما وضعه الله تعالى‏.‏

فإنه جعل الحر لتحلل الأخلاط والبرد لجمودها فيجعلون هم جميع السنة ربيعاً فتنعكس الحكمة التي وضع الحر والبرد لها ويرجع الأذى على الأبدان‏.‏

ولا يظن سامع هذا أني آمره بملاقاة الحر والبرد‏.‏

وإنما أقول له‏:‏ لا يفرط في التوقي بل يتعرض في الحر لما يحلل بعض الأخلاط إلى حد لا يؤثر في القوة‏.‏

وفي البرد بأن يصيبك منه الأمر القريب لا المؤذي فإن الحر والبرد لمصالح البدن‏.‏

وقد كان بعض الأمراء يصون نفسه من الحر والبرد أصلاً فتغيرت حالته فمات عاجلاً وقد ذكرت قصته في كتاب لقط المنافع في علم الطب‏.‏

  فصل فلسفة الصبر والرضا

ليس في التكليف أصعب من الصبر على القضاء ولا فيه أفضل من الرضى به‏.‏

فأما الصبر‏:‏ فهو فرض‏.‏

وأما الرضا فهو فضل‏.‏

وإنما صعب الصبر لأن القدر يجري في الأغلب بمكروه النفس وليس مكروه النفس يقف على المرض والأذى في البدن بل هو يتنوع حتى يتحير العقل في حكمة جريان القدر‏.‏

فمن ذلك أنك إذا رأيت مغموراً بالدنيا قد سالت له أوديتها حتى لا يدري ما يصنع بالمال فهو يصوغه أواني يستعملها‏.‏

ومعلوم أن البلور والعقيق والشبه قد يكون أحسن منها صورة غير أن قلة مبالاته بالشريعة جعلت عنده وجود النهي كعدمه‏.‏

ويلبس الحرير ويظلم الناس والدنيا منصبة عليه‏.‏

ثم يرى خلقاً من أهل الدين وطلاب العلم مغمورين بالفقر والبلاء مقهورين تحت ولاية ذلك الظالم‏.‏

فحينئذ يجد الشيطان طريقاً للوسواس ويبتدي بالقدح في حكمة القدر‏.‏

فيحتاج المؤمن إلى الصبر على ما يلقى من الضر في الدنيا وعلى جدال إبليس في ذلك‏.‏

وكذلك في تسليط الكفار على المسلمين والفساق على أهل الدين‏.‏

وأبلغ من هذا إيلام الحيوان وتعذيب الأطفال ففي مثل هذه المواطن يتمحص الإيمان‏.‏

ومما يقوي الصبر على الحالتين النقل والعقل‏.‏

أما النقل فالقرآن والسنة أما القرآن فمنقسم إلى قسمين أحدهما بيان سبب إعطاء الكافر والعاصي فمن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إِنَّمَا نُملي لهمْ ليزْدَادُوا إثماً ‏"‏‏.‏

‏"‏ وَلَوْلاَ أَنْ يَكونَ الناسُ أمة واحة لجَعْلنا لمنْ يكفُرُ بالرَّحمن لبُيوتهم سقفاً مِنْ فِضَّةٍ ‏"‏ ‏"‏ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيْهَا فَفَسَقُوا فِيهَا ‏"‏‏.‏

وفي القرآن من هذا كثير‏.‏

والقسم الثاني‏:‏ ابتلاء المؤمن بما يلقى كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَم اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمُ ‏"‏ ‏"‏ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا ‏"‏ ‏"‏ أًمْ حَسِبْتُمُ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ ‏"‏ وفي القرآن من هذا كثير‏.‏

وأما السنة فمنقسمة إلى قول وحال‏.‏

أما الحال‏:‏ فإنه صلى الله عليه وسلم كان يتقلب على رمال حصير تؤثر في جنبه فبكى عمر رضي الله عنه وقال‏:‏ كسرى وقيصر في الحرير والديباج فقال له صلى الله عليه وسلم‏:‏ أفي شك أنت يا عمر ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا‏.‏

وأما القول فكقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء‏.‏

وأما العقل‏:‏ فإنه يقوي عساكر الصبر بجنود منها أن يقول‏:‏ قد ثبتت عندي الأدلة القاطعة على حكمة المقدر‏.‏

فلا أترك الأصل الثابت لما يظنه الجاهل خللاً‏.‏

ومنها أن يقول‏:‏ ما قد استهولته أيها الناظر من بسط يد العاصي هي قبض في المعنى وما قد أثر عندك من قبض يد الطائع بسط في المعنى لأن ذلك البسط يوجب عقاباً طويلاً وهذا القبض يؤثر انبساطاً في الأجر جزيلاً فزمان الرجلين ينقضي عن قريب‏.‏

والمراحل تطوى‏.‏

والركبان في السير الحثيث‏.‏

ومنها أن يقول‏:‏ قد ثبت أن المؤمن بالله كالأجير وأن زمن التكليف كبياض نهار ولا ينبغي للمستعمل في الطين إن يلبس نظيف الثياب بل ينبغي أن يصابر ساعات العمل فإذا فرغ تنظف ولبس أجود ثيابه‏.‏

فمن ترفه وقت العمل ندم وقت تفريق الأجرة وعوقب على التواني فيما كلف فهذه النبذة تقوي أزر الصبر‏.‏

وأزيدها بسطاً فأقول‏:‏ أترى إذا أريد اتخاذ شهداء فكيف لا يخلق أقوام يبسطون أيديهم لقتل المؤمنين أفيجوز أن يفتك بعمر إلا مثل أبي لؤلؤة وبعلي إلا مثل ابن ملجم‏:‏ أفيصح أن يقتل يحيى بن زكريا إلا جبار كافر ولو أن عين الفهم زال عنها غشاء العشا‏.‏

‏.‏

لرأيت المسبب لا الأسباب والمقدر لا الأقدار فصبرت على بلائه‏.‏

إيثاراً لما يريد ومن ههنا ينشأ الرضى‏.‏

كما قيل لبعض أهل البلاء‏:‏ ادع الله بالعافية فقال‏:‏ أحبه إلي أحبه إلى الله عز وجل‏.‏

إن كان رضاكم في سهري فسلام اللّه على وسني لما أنهيت كتابة الفصل المتقدم‏.‏

هتف بي هاتف من باطني‏.‏

دعني من شرح الصبر على الأقدار فإني قد اكتفيت بأنموذج ما شرحت‏.‏

وصف حال الرضى‏.‏

فإني أجد نسيماً من ذكره فيه روح للروح‏.‏

فقلت‏:‏ أيها الهاتف اسمع الجواب‏.‏

وافهم الصواب‏.‏

إن الرضى من جملة ثمرات المعرفة فإذا عرفته رضيت بقضائه وقد يجري في ضمن القضاء مرارات يجد بعض طعمها الراضي‏.‏

أما العارف فتقل عنده المرارات لقوة حلاوة المعرفة‏.‏

فإذا ترقى بالمعرفة إلى المحبة صارت مرارة الأقدار حلاوة كما قال القائل‏:‏ عذابه فيك عذب وبعده فيك قرب وأنت عندي كروحي بل أنت منها أحب حسبي من الحب أني لما تحبّ أحبّ وقال بعض المحبين في هذا المعنى‏:‏ ويقبح من سواك الفعل عندي فتفعله فيحسن منك ذاك فصاح بي الهاتف‏.‏

حدثني بماذا أرضى قدر أني أرضى في أقداره بالمرض والفقر أفأرضى بالكسل عن خدمته والبعد عن أهل محبته فبين لي ما الذي يدخل تحت الرضى مما لا يدخل‏.‏

فقلت له‏:‏ نعم ما سألت فاسمع الفرق سماع من ألقى السمع وهو شهيد‏.‏

إرضى بما كان منه‏.‏

فأما الكسل والتخلف فذاك منسوب إليك فلا ترضى به من فعلك‏.‏

وكن مستوفياً حقه عليك مناقشاً نفسك فيما يقربك منه غير راض منها بالتواني في المجاهدة‏.‏

فأما ما يصدر من أقضيته المجردة التي لا كسب لك فيها‏.‏

فكن راضياً بها كما قالت رابعة رحمة الله عليها - وقد ذكر عندها رجل من العباد يلتقط من مزبلة فيأكل فقيل‏:‏ هلا سأل الله تعالى أن يجعل رزقه من غير هذا - فقالت‏:‏ إن الراضي لا يتخير ومن ذاق طعم المعرفة‏.‏

وجد فيه طعم المحبة فوقع الرضى عنده ضرورة‏.‏

فينبغي الاجتهاد في طلب المعرفة بالأدلة ثم العمل بمقتضى المعرفة بالجد في الخدمة لعل ذلك يورث المحبة‏.‏

فقد قال سبحانه وتعالى‏:‏ لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه‏.‏

فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به‏.‏

فذلك الغنى الأكبر‏.‏

ووافقراه‏.‏

رأيت جمهور العلماء يشغلهم طلبهم للعلم في زمن الصبا عن المعاش فيحتاجون إلى ما لا بد منه فلا يصلهم من بيت المال شيء ولا من صلات الإخوان ما يكفي فيحتاجون إلى التعرض للإذلال فلم أر في ذلك من الحكمة إلا سببين‏.‏

أحدهما‏:‏ قمع إعجابهم بهذا الإذلال والثاني‏:‏ نفع أولئك بثوابهم‏.‏

ثم أمعنت الفكر فتلمحت نكتة لطيفة وهو أن النفس الأبية إذا رأت حال الدنيا كذلك‏.‏

لم تساكنها بالقلب ونبت عنها بالعزم ورأت أقرب الأشياء شبهاً بها‏.‏

مزبلة عليها الكلاب أو غائطاً يؤتى لضرورة‏.‏

فإذا نزل الموت بالرحلة عن مثل هذه الدار‏.‏

لم يكن للقلب بها متعلق متمكن فتهون حينئذ‏.‏

  فصل من خلط الزهاد

ما زال جماعة من المتزهدين يزرون على كثير من العلماء إذا انبسطوا في مباحات‏.‏

والذي يحملهم على هذا الجهل‏.‏

فلو كان عندهم فضل علم ما عابوهم‏.‏

وهذا لأن الطباع لا تتساوى فرب شخص يصلح على خشونة العيش وآخر لا يصلح على ذلك ولا يجوز لأحد أن يحمل غيره على ما يطيقه هو‏.‏

غير أن لنا ضابطاً هو الشرع فيه الرخصة وفيه العزيمة‏.‏

فلا ينبغي أن يلام من حصر نفسه في ذلك الضابط‏.‏

ورب رخصة كانت أفضل من عزائم لتأثير نفعها‏.‏

ولو علم المتزهدون أن العلم يوجب المعرفة بالله تعالى‏.‏

فتنبت القلوب من خوفه وتنحل الأجسام للحذر منه فوجب التلطف حفظاً لقوة الراحلة‏.‏

ولأن آلة العلم والحفظ‏.‏

القلب والفكر فإذا رفهت الآلة جاد العمل وهذا أمر لا يعلم إلا بالعلم‏.‏

فلجهل المتزهدين بالعلم أنكروا ما لم يعلموا‏.‏

وظنوا أن المراد إتعاب الأبدان وإنضاء الرواحل وما علموا أن الخوف المضني يحتاج إلى راحة مقاومة كما قال القائل‏.‏

روحوا القلوب تعي الذكر‏.‏

  فصل التصوف

ونشر الجهل ليس في الوجود شيء أشرف من العلم كيف لا وهو الدليل‏.‏

فإذا عدم وقع الضلال‏.‏

وإن من خفي مكائد الشيطان أن يزين في نفس الإنسان التعبد ليشغله عن أفضل التعبد وهو العلم حتى أنه زين لجماعة من القدماء أنهم دفنوا كتبهم ورموها في البحر‏.‏

وهذا قد ورد عن جماعة‏.‏

وأحسن ظني بهم أن أقول‏:‏ كان فيها شيء من رأيهم وكلامهم فما أحبوا انتشاره‏.‏

وإلا فمتى كان فيها علم مفيد صحيح لا يخاف عواقبه كان رميها إضافة للمال لا يحل وقد دنت حيلة إبليس إلى جماعة من المتصوفة حتى منعوا من حمل المحابر تلامذتهم‏.‏

وحتى قال جعفر الخلدي‏:‏ لو تركني الصوفية جئتكم بإسناد الدنيا كتبت مجلساً عن أبي العباس الدوري فلقيني بعض الصوفية فقال‏:‏ دع علم الورق وعليك بعلم الخرق‏.‏

ورأيت محبرة مع بعض الصوفية‏.‏

فقال له صوفي آخر‏:‏ استر عورتك‏!‏ وقد أنشدوا للشبلي‏:‏ إذا طالبوني بعلم الورق برزت عليهم بعلم الخرق وهذا من خفي حيل إبليس ‏"‏ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ‏"‏ وإنما فعل وزينه عندهم لسببين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه أرادهم يمشون في الظلمة‏.‏

والثاني‏:‏ أن تصفح العلم كل يوم يزيد في علم العالم‏.‏

ويكشف له ما كان خفي عنه ويقوي إيمانه ومعرفته ويريه عيب كثير من مسالكه خصوصاً إذا تصفح منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة‏.‏

فأراد إبليس سد تلك الطرق بأخفى حيلة فأظهر أن المقصود العمل لا العلم لنفسه وخفي فاحذر من هذه الخديعة الخفية فإن العلم هو الأصل الأعظم والنور الأكبر‏.‏

وربما كان تقليب الأوراق أفضل من الصوم والصلاة والحج والغزو‏.‏

وكم من معرض عن العلم يخوض في عذاب من الهوى في تعبده ويضيع كثيراً من الفرض بالنقل ويشتغل بما يزعمه الأفضل عن الواجب‏.‏

ولو كانت عنده شعلة من نور العلم لاهتدى فتأمل ما ذكرت لك ترشد إن شاء الله تعالى‏.‏

  فصل تعليل النفس

مر بي حمالان جذع ثقيل وهما يتجاوبان بإنشاد النغم وكلمات الاستراحة‏.‏

فأحدهما يصغي إلى ما يقوله الآخر ثم يعيده أو يجيبه بمثله والآخر همته مثل ذلك‏.‏

فرأيت أنهما لو لم يفعلا هذا زادت المشقة عليهما وثقل الأمر وكلما فعلا هذا هان الأمر‏.‏

فتأملت السبب في ذلك فإذا به تعليق فكر كل واحد منهما بما يقوله الآخر وطربه به وإحالة فكره في الجواب بمثل ذلك فينقطع الطريق وينسى ثقل المحمول‏.‏

فأخذت من هذا إشارة عجيبة ورأيت الإنسان قد حمل من التكليف أموراً صعبة ومن أثقل ما حمل مداراة نفسه وتكليفها الصبر عما تحب وعلى ما تكره‏.‏

فإن تشكت فعلّلها المجرة من ضوء الصباح وعدها بالرواح ضحى ومن هذا ما يحكى عن بشر الحافي رحمة الله عليه‏:‏ سار ومعه رجل في طريق فعطش صاحبه فقال له‏:‏ نشرب من هذه البئر فقال بشر‏:‏ اصبر إلى البئر الأخرى فلما وصلا إليها قال له‏:‏ البئر الأخرى‏.‏

فما زال يعلله‏.‏

‏.‏

‏.‏

ثم التفت إليه فقال له‏:‏ هكذا تنقطع الدنيا‏.‏

ومن فهم هذا الأصل علل النفس وتلطف بها ووعدها الجميل لتصبر على ما قد حملت كما كان بعض السلف يقول لنفسه‏:‏ والله ما أريد بمنعك من هذا الذي تحبين إلا الإشفاق عليك‏.‏

وقال أبو يزيد رحمة الله عليه‏:‏ ما زلت أسوق نفسي إلى الله تعالى وهي تبكي حتى سقتها وهي تضحك‏.‏

واعلم أن مداراة النفس والتلطف بها لازم وبذلك ينقطع الطريق فهذا رمز إلى الإشارة وشرحه يطول‏.‏

  فصل تلحين الوحي وتطريب الوعظ

تأملت أشياء تجري في مجالس الوعظ يعتقدها العوام وجهال العلماء قربة وهي منكر وبعد‏.‏

وذاك أن المقرىء يطرب ويخرج الألحان إلى الغناء والواعظ ينشد بتطريب أشعار المجنون وليلى فيصفق هذا ويخرق ثوبه هذا ويعتقدون أن ذلك قربة‏.‏

ومعلوم أن هذه الألحان كالموسيقى توجب طرباً للنفوس ونشوة والتعرض لما يوجب الفساد غلط عظيم‏.‏

وينبغي الاحتساب على الوعاظ في هذا وكذلك المقابريون منهم فإنهم يهيجون الأحزان ليكثر بكاء النساء فيعطون على ذلك الأجرة‏.‏

ولو أنهم أمروا بالصبر لم ترد النسوة ذلك وهذه أضداد للشرع‏.‏

قال ابن عقيل‏:‏ حضرنا عزاء رجل قد مات له ولد فقرأ المقرىء‏:‏ ‏"‏ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُف ‏"‏ فقلت له‏:‏ هذه نياحة بالقرآن‏.‏

وفي الوعاظ من يتكلم على طريق المعرفة والمحبة فترى الحائك والسوقي الذي لا يعرف فرائض تلك الصلاة يمزق أثوابه دعوى لمحبة الله تعالى‏.‏

والصافي حالاً منهم - وهو أصلحهم - يتخايل بوهمه شخصاً هو الخالق فيبكيه شوقه إليه لما يسمع من عظمته ورحمته وجماله‏.‏

وليس ما يتخايلونه المعبود لأن‏:‏ المعبود لا يقع في خيال‏.‏

إلا أن الواعظ مأمور بأن لا يتعدى الصواب ولا يتعرض لما يفسدهم‏.‏

بل يجذبهم إلى ما يصلح بألطف وجه وهذا يحتاج إلى صناعة فإن من العوام من يعجبه حسن اللفظ ومنهم من يعجبه الإشارة ومنهم من ينقا ببيت من الشعر‏.‏

وأحوج الناس إلى البلاغة الواعظ ليجمع مطالبهم لكنه ينبغي أن ينظر في اللازم الواجب وأن يعطيهم من المباح في اللفظ قدر الملح في الطعام ثم يجتذبهم إلى العزائم ويعرفهم الطريق الحق‏.‏

وقد حضر أحمد بن حنبل فسمع كلام الحارث المحاسبي فبكى ثم قال‏:‏ لا يعجبني الحضور وإنما بكى لأن الحال أوجبت البكاء‏.‏

وقد كان جماعة من السلف يرون تخليط القصاص فينهون عن الحضور عندهم‏.‏

وهذا على الإطلاق لا يحسن اليوم لأنه كان الناس في ذلك الزمان متشاغلين بالعلم فرأوا حضور القصص صاداً لهم واليوم كثر الإعراض عن العلم فأنفع ما للعامي مجلس الوعظ يرده عن ذنب ويحركه إلى توبة وإنما الخلل في القاص فليتق الله عز وجل‏.‏